ﻓﻲ العاصمة النمساوية فيينا، ومع نهاية ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ عام 1945، ﻗﺎﻡ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻤﺘﺴﻮﻟﻴﻦ ﺑﺎﻻﺳﺘﻴﻼﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻜﺘﺒﺎﺕ ﺍﻟﻤﻬﺠﻮﺭﺓ والمدمرة بسبب الخراب، فجمعوا كتبا كثيرة، ليبيعوها ولو ﺑﺄﺑﺨﺲ ﺍلأثمان لعدم إدراكهم للقيمة الحقيقية لهذه ﺍﻟمؤلفات، استمر الوضع عدة سنوات، ﻭﺑﻌﺪها ﻻﺣﻆ ﺍﻟﻤﺜﻘﻔﻮﻥ ﻓﻲ مدينة فيينا ﺍﺯﺩﻳﺎﺩ ﺛﻘﺎﻓﺔ ﺍﻟﻤﺘﺴﻮﻟﻴﻦ ﺑﺸﻜﻞ كبير ﻭﺩﺧﻮﻟﻬﻢ في نقاشات ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ و فكرية ﻓﻲ ﻣﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻓﻲ ﺍﻟشوارع والممرات، ﻭﻗﺪ ﺑﺪﺃﻭﺍ ﻳﺤﺴﻨﻮﻥ طريقة كلامهم، وأيضا معاني المصطلحات ﺍﻟﺘﻲ يستخدمونها ﻓﻲ الحوار.
بعد هذه الملاحظات المتكررة، قرر بعض الباحثين بالمدينة، البحث في الأمر وتتبع حياة المتسولين، الذين اتخذوا تجارة بيع الكتب كحرفة، فوﺟﺪﻭﺍ أن ﻫﺆﻻﺀ ﺍﻟﻤﺘﺴﻮﻟﻴﻦ أو الباعة، ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻳﻘﺮﺃﻭﻥ ﻫﺬه ﺍﻟﻜﺘﺐ ﺍﻟﺘﻲ يبيعونها مُجبرين ﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻣﺤﺘﻮﺍﻫا، من أجل البوح بفحواها في الشوارع والأﺳﻮﺍﻕ ﻟﺠﺬﺏ انتباه ﺍﻟﻤﺸﺘﺮﻳﻦ، ومع قراءة كتب كثيرة وفهم ما تحتويه من أفكار، تولدت لديهم معارف جديدة، وﺗﺄﺛﺮﻭﺍ بها كثيراً، معرفيا وسلوكيا، وربما بدون ما يدرون.
اليوم في واقعنا العربي، ومع انتشار الانترنيت، وسهولة وصول المعلومة إلى كل مكان، مع وجود معظم الكتب والروايات على صفحات الويب، هل نستفيد منها، أم نواصل استخدامه للترفيه والرقص، والبحث عن التفاهة والسيلفي والبوز من أجل جني الأموال فقط؟
نحن أمام ظواهر مجتمعية بحاجة للدراسة، قد تساهم في بلورة مشاريع فكرية جديدة، تعيد الشباب إلى السكة الصحيحة، من أجل البناء والتطوير. الوضع بحاجة إلى تقييم مستعجل من طرف علماء الاجتماع، لفهم قضايا الشباب، وأيضا التأثير السلبي والإيجابي للفضاء الأزرق وخصوصا مواقع التواصل الاجتماعي، التي يتم استخدامها بشكل غير سوي.
سيكون علينا تطوير خطط جديدة، للتعامل مع مختلف التقنيات الجديدة على الانترنيت، ليكون استعمالها بالشكل الصحيح، وأيضا يكون متنفسا فكريا وتوعويا للأجيال القادمة، عوض استغلاله في ما يهدم الفرد والأسرة والمجتمع بكامله.
قصة فيينا ليست غريبة، لكنها نموذج حي، لإدمان المعرفة ونشرها، أي مشروع مجتمعي مؤسساتي يعيد للقراءة والكتابة دورهما، مما يجعل الإعلام في صلب الموضوع، دفاعا عن الثقافة الحقة وبعيدا عن نشر التفاهة والميوعة الأخلاقية.
مشروع يستدعي انخراط كل مكونات المجتمع، كل من زاويته ومن مكانه، ليكون مؤثرا فعالا في عملية التغير نحو مجتمع مثقف وواع.