نظمت المخابرات الإنجليزية بالتعاون مع جماعة الإخوان منذ سبتمبر الماضي عدة اجتماعات مع وفود ليبية منتقاة مخابراتياً بدقة، كثير منها بسيط لا يفقه كواليس السياسية ومعزول اجتماعياً، لإظهار صورة خادعة بأن هؤلاء هم أعيان ليبيا وسياسيوها، الإنجليز يدركون أن هؤلاء عاجزون عن تحريك الجماهير، ولكن يجهزونهم كخلايا نائمة يحركونها وقت إشعال الفوضى، أو لمنح البيعة، شأنهم شأن مستوردي الفتاوى.
اختيرت إسطنبول لإبعاد شبهة المخابرات البريطانية، وكأن الملك المزعوم يجتمع في أرض أخواله، الموعودين بقطعة من الفريسة، نُظمت اللقاءات بمراسم مبهرة، سيارات فارهة وإقامات باذخة وهدايا قيمة. الحوارات سرية لم يرشح عنها إلا صورة خادعة للمستضيف بأنه رجل واع وحريص على مصلحة ليبيا، وليس عنده رغبة في الحكم، وحيث إن الإنجليز يدركون أن ما يطرح سيتم تسريبه إلى داخل ليبيا، فحرصت على توجيه رسائل اطمئنان لتخدير القوى التي تخشى معارضتها. هنا وجب التذكير بمصير بشير السعداوي الذي ضحى من أجل وحدة ليبيا، وبعد أن تمكّن إدريس من الحكم كافأه بالنفي.
الخطة بدأت منذ حرب فجر ليبيا، بالتضييق على الشعب لخلق حالة من (الإعياء) تجبر الناس على القبول بأي حل يخرجهم من حياة الضنك والخوف التي يعيشونها، ويأسهم من جدوى حوارات الإلهاء، ثم تقديم الإسباني كمنقذ، ستفرضه البوارج البريطانية بالقوة، مثل ما فرضوا المجلس الانتقالي عام 2011، وسيجرّم سبتمبر لإعادة ليبيا للاحتلال الإنجليزي والأمريكي والاستيطان الإيطالي، وقد ينشب صراع دامٍ بين ديسمبر وسبتمبر، وعندها فبراير ستذوب بين ديسمبر وسبتمبر.
الخطط ترسم والاستراتيجيات توضع لمواجهة الأهداف النهائية للعدو. فخطوات العدو التمهيدية مهما أظهرت من البراءة أو دغدغة للمشاعر، يجب تفحصها وكشف حقيقتها. في السياسة لا يوجد صديق دائم، أو عدو دائم، بل مصالح دائمة.
مجرد التفكير في الدعوة لاستيراد ملك لحكم ليبيا يعد تحقيرًا لليبيين وكأنهم قُصَّر، لا يقوون على حكم أنفسهم، هذا انحطاط سياسي واستنساخ لتجارب فاشلة. الأنظمة الملكية مكانها متاحف التاريخ، فالشعوب لا ترجع للخلف، فقد ولى عهد (مولانا صاحب الجلالة). شاهدنا ببغاوات تردد في مصطلحات لا تفهمها مثل مصطلح “ملكية دستورية” بينما الدستور الملكي تجاوزه العصر ثلاثة أرباع قرن، فقد صيغ بظروف وعقليات الأربعينيات، ليجسد الحكم الفردي المطلق في يد الملك، وليس ملكاً رمزياً مثل ممالك أوروبا الآن. في الأربعينيات شخص واحد أسس حزبا وشكل لهم صداعا، فما بالك وعي الليبيين اليوم، والأدوات التي يملكونها.
العائلة السنوسية الدخيلة نصَّبها الإنجليز لحكم ليبيا، مثلما قال المرحوم السنوسي الالطيوش “إدريس هذا والده جاء إلينا يحمل كتبا، فنحن مولناه ومكناه وصنعنا منه ملكاً فمن حقنا خلعه”.
إن التركيز على الابن الأصغر، يعيد إلى الأذهان الصناعة الإنجليزية لإدريس وتهميش المجاهد أحمد الشريف. فمحمد هذا عميل مدرب صناعة بريطانية، غادر ليبيا في عامه الثامن وتزوج من أجنبية وحمل جنسيات أجنبية. فإن كان ولا بد من منح بيعة فلنمنحها لليبي ولد ليبية يعيش معنا في جزيرة الملح بحلوها ومرها.
أما هذا فبيدق ليحكم به الإنجليز ليبيا، مثل ما نصبوا إدريس في أربعينيات القرن الماضي. أي أنه مجرد غطاء لاحتلال حقيقي لليبيا، وشرعنة لنهب ثرواتها وجعلها شوكة في جسد الأمة العربية.
المستفيدون من الاستيراد خمسة:
أولهم: الإنجليز ينصبون ملكا يحكمونه مثلما كانوا يحكمون إدريس رحمه الله. الإنجليز يحلمون بالعودة لقاعدة العدم، لكن الصخرة الصماء تمنعهم، بينما الأمريكيون عادوا واقعياً إلى ويلس.
وثانيهم: جماعة الإخوان تدرك أن السنوسية هي الإخوانية، وتلتقي معها في توظيف الدين والعداء للعروبة والعمالة للإنجليز.
وثالثهم: الأنظمة الوراثية ومروجي التطبيع والإبراهيمية فإقامة نظام ملكي بالطبيعة سيكون حليفا لهم.
رابعهم: الدبيبة يظن أنه بشراء ملك سيستمر رئيس حكومة مدى الحياة، متناسيا أن إدريس شكل 11 حكومة خلال 18 سنة، بعضها استمر لثلاثة أشهر فقط.
وخامسهم: العائلات التي كانت تحكم ليبيا من خلف ظهر الملك، والتي فقدت مزاياها بالمساواة بين الليبيين.
المتضررون والمعارضون على الأقل خمسة، هم القوات المسلحة العربية الليبية، والليبيون بمختلف مشاربهم ومصر والجزائر وروسيا، الحديث حولهم سيرد في الجزء الثاني بعنوان (المتضررون والمعارضون وأساليب المواجهة)، بالعدد القادم بإذن الله.
د. محمد جبريل