استغرب العديد من المراقبين والمهتمين بالشأن الليبي من الأنباء الواردة عن انسحاب قوات شركة “فاغنر” الروسية الخاصة من مواقعها في مدينة “سوكنة” ومن الطريق الرابط بين مدينتي “ودان” و”سرت” باتجاه منطقة “الجفرة”، حيث اعتبروا أن هذا الانسحاب قد يكون مقلقاً إلى حدّ ما باعتبار أن “فاغنر” هي التشكيل العسكري الوحيد القادر على تفادي وقوع الأطراف السياسية المتصارعة في حرب أهلية لن تأتي إلا بالويل والدمار. هذا وتأتي أخبار الانسحاب بالتزامن مع قيام تركيا بتعزيز تواجد العناصر المسلحة التابعة لها في ليبيا، وهذا ما أكدته العديد من الفديوهات التي انتشرت مؤخراً والتي أظهرت قدوم تعزيزات عسكرية إلى العاصمة طرابلس لدعم رئيس الحكومة “عبد الحميد اللدبيبة”.
ولكن ما الدور الذي لعبته “فاغنر” في ليبيا؟ يمكن تلخيص الإجابة على هذا السؤال من خلال مجموعة من النقاط: أبرزها المساهمة في محاربة والقضاء على تنظيم داعش الإرهابي وفروعه على الأراضي الليبية، إذ منح تأمين الوضع الأمني في ليبيا ومساعدة الخبراء التابعين للمجموعة على عودة إنتاج النفط لتطوير الاقتصاد الليبي الذي يستفيد منه ليس حفتر وحده ولكن جميع الأطراف. وكذلك تقديم تدريبات للقوات التابعة لخليفة حفتر والقيام بعمليات الاستطلاع والتقصي، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في تسريع سيطرة خليفة حفتر على مساحات ومناطق واسعة. إذ قامت قوات فاغنر ببناء خط دفاعي بين سرت والجفرة من أجل تأمين نجاح الهدنة في ليبيا. وأخيراً وليس آخراً حراسة وحماية حياة سيف الإسلام القذافي، نجل الرئيس الليبي السابق الذي من الممكن أن يكون مرشحاً وسطيا يوافق عليه جميع أطراف الأزمة. وعلى الرغم من الإشاعات الكثيرة التي تحدثت عن سعي مجموعة فاغنر الحثيث لإيصال خليفة حفتر إلى سدة الحكم في ليبيا، إلا أن دعم وحماية سيف الإسلام القذافي في الوقت ذاته يعني الإيمان بضرورة قيام عملية سياسية يشارك فيها مختلف الأطراف بالشكل الذي لا يسمح للقوة بإقصاء أي طرف. وبهذا فإن وجود قوات فاغنر كقوة ثالثة في مقابل القوات الأمريكية والتركية يعني ضماناً لاستقرار ليبيا حتى الوصول إلى تسوية تنصف وترضي جميع الأطراف المتنازعة، ويعني عدم الرضوخ لرغبة أمريكا وتركيا في السيطرة على البلاد، وخاصةً في ظل السعي التركي للحصول على امتيازات فيما يخص استخدام البحر الأبيض المتوسط. وخاصةً بعد العديد من التقارير الإعلامية التي تحدثت عن سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وتدخلاته الخارجية، وعن اتهاماته لروسيا بدعم الجيش الوطني الليبي، بينما يدعم هو الميليشيات المتطرفة الذين لطخوا أنفسهم في سوريا بجرائم بشعة وأرسلهم لدعم حكومة الوفاق في ليبيا.
وليس لنا أن ننسى أن شركة فاغنر الروسية قد قامت فعلاً بإحداث خلل واضح وكبير في المخططات الاستراتيجية التي رسمها الغرب في الشرق الأوسط سواءً على الصعيد الاقتصادي أو السياسي، ولعلّ صمود سوريا في وجه التقسيم وحفاظها على وحدة أراضيها من أبرز الأدلة على أهمية الدور الذي لعبته قوات فاغنر في وجه المخططات الغربية، فقد كان لها دور حاسم وفعال في محاربة تنظيم داعش في سوريا وفي تحقيق الانتصار عليه في الكثير من المعارك وخاصةً في معركة تحرير مدينة دير الزور عام 2017، حيث كانت في مقدمة القوات المقاتلة التي تقدمت باتجاه ضواحي المدينة وهاجمت أوكار التنظيم الإرهابي خلال الفترة التي كانت تعتبر الذروة بالنسبة لخطورة الوضع هناك.
وأضف إلى ليبيا وسوريا أيضاً محاربة وهزيمة المتمردين الإرهابيين في جمهورية أفريقيا الوسطى. وهذا الأمر الذي جعل دولة “مالي” ترى في عناصر “فاغنر” بديلاً أكثر كفاءة ونجاعة في حماية الأمن والاستقرار من القوات الخاصة الفرنسية التي ثبت فشلها هناك. حيث أخذت عناصر الشركة الروسية مواقعها وبدأت بتنفيذ مهامها هناك في سبتمبر 2021 بعد الثورة التي منحت الشعب المالي حريته من قيود الغرب.
وبغض النظر عما يقال عن قوات “فاغنر” فلا يمكن تجاهل حقيقة كونها قوة ضاربة تعطي الأفضلية لأي طرف تكون بجانبه. إذ سبق وأشار بعض المحللين إلى إمكانية عودة التدخلات الخارجية للتأثير في عملية التسوية الليبية، الأمر الذي جعل من انسحاب “فاغنر” يثير الشكوك حول استمرار الاستقرار في البلاد، فهل يحرك هذا الانسحاب المياه الراكدة باتجاه عملية سياسية ترضي جميع الأطراف؟