رحل الفنان مصطفى الداسوكين، رائد الكوميديا في المغرب عن 82 عاما. وهو يعد من أبرز الفنانين الشعبيين، في المسرح والتلفزيون، وأعماله التي توسم بالفكاهة العائلية عرفت رواجاً كبيراً في بلدان المغرب العربي.
استطاع الكوميدي المغربي مصطفى الداسوكين الذي غادر عالمنا أول من أمس أن ينحت طريقته الفريدة في التشخيص الفكاهي، وأن يحظى بشعبية كبيرة في المغرب على مدى ستة عقود من الحضور أمام الكاميرا وعلى خشبات المسارح. فقد كان رهانه هو أن يضحك الجمهور بأداء بسيط يقطع مع المبالغة في الانفعالات، والإفراط في تغيير الملامح، والاختباء وراء اللهجة البدوية. كانت جملة قصيرة من الداسوكين تجعل القاعة برمتها تضحك، وكانت حركته المرحة أمام الكاميرا تبعث البهجة في التلفزيون. لقد كان مصطفى الداسوكين (مواليد 1942 بالدار البيضاء) رائد الفكاهة العائلية بامتياز، زرع الضحك في وجوه مختلف الأجيال، وحظي بمحبة الصغار والكبار، هو الذي اختار أن تكون أدواره الكوميدية متناغمة مع تصوره للفن. فالتمثيل بالنسبة إليه هو ما نستطيع أن نستمتع به جميعاً من دون حرج، وأن نتقاسم هذه المتعة داخل العائلة سواء في الأعمال المسرحية أو التلفزيونية أو السينمائية.
كان الداسوكين رائداً في تشكيل الثنائيات الفكاهية، فقد انطلق مع صديقه الفنان مصطفى الزعري منذ عام 1963 في تقديم أعمال كوميدية تعتمد على الحوار الثنائي، الذي يؤدى بشكل متسارع ومتناغم، ويقوم على فكرة أن يوقع أحدهما بالآخر حيث الاختلاف في الرأي والمواجهة المرحة.
انطلق هذا الثنائي من المخيمات الصيفية في منطقة الأطلس، إذ قدما معاً أدواراً فكاهية لمرتادي المخيمات، كانت مواضيعها قريبة من الناس، مثل مشكلات الزواج وإكراهات السكن وضغط الحياة اليومية. اشتغل الداسوكين بعدها مع فرقة “الأخوة العربية” التي كان يترأسها الفنان الراحل عبدالعظيم الشناوي، ثم انتقل مع صديقه الزعري للاشتغال مع المسرحي الرائد الراحل عبدالقادر البدوي، وكانت البداية مع عمل كوميدي بعنوان “النواقسية” عام 1967.
كان أول ظهور للداسوكين في الأعمال التلفزيونية عام 1966 حين قدم كشكولاً فكاهياً مع الفنان الراحل الحبيب القدميري عنوانه “رينكو ودجينكو”، وهو بمثابة محاكاة ساخرة لأفلام الكاوبوي. واللافت أن الملك الراحل الحسن الثاني شاهد هذا العرض على التلفزيون فاتصل هاتفياً بالداسوكين والقدميري وعبر عن إعجابه بأدائهما، وشكرهما لأنهما قدما للمغاربة عملاً ممتعاً.
كان الداسوكين نجماً منذ الستينيات في عدد من المسرحيات، من بينها “بنت الخراز” و”نص عقل” و”الجيلالي ترافولتا” و”الزواق يطير” و”القضية فيها إن” و”قولوا العام زين” و”شارب عقلو” و”المدير الجديد” و”مستشفى المجانين” وغيرها. وكان حضوره لافتاً في المسلسلات التلفزيونية التي حظيت بتقدير كبير من المغاربة منذ السبعينيات مثل “خمسة وخميس” و”ستة من ستين” و”بوشتى وبوغطاية” و”الغالية” و”دموع الرجال” و”شوك السدرة” و”عائلة سي مربوح”، إضافة إلى حضوره المميز في عدد من السيتكومات مثل “خير وسلام” و”راديو واك واك” و”الضحك فيه وفيه” و”الهاربان” و”خاطر من ندير؟”.
أعطى الفنان المغربي وقته وجهده وتركيزه للتلفزيون على حساب السينما، لذلك كانت مشاركاته في مجال الفن السابع محدودة قياساً إلى غزارة أعماله على الشاشة الصغيرة. وقف أمام كاميرا المخرجة فريدة بورقية عام 1983 ليشارك في فيلم “الجمرة” الذي ظل يعرض يومياً لفترة طويلة، محققاً بذلك أرقاماً قياسية في شباك التذاكر خلال تلك الحقبة، مثل أيضاً في فيلم “الوريث” للمخرج عبدالرحمن التازي، و”خارج التغطية” لنور الدين دوكنة، كما شارك في أفلام قصيرة مع البعثة الفرنسية، ومثل في أحد أفلام المخرج الأميركي ريتشارد هاريسون خلال الثمانينيات.
كان مصطفى الداسوكين يملك الموهبة، وكان في الآن ذاته يتسم بالتواضع وبالرغبة في تطوير مهاراته الأدائية، لذلك كان يصغي لزملائه ومحبيه، ويلتقط منهم الإشارات والتوجيهات بكل عفوية، ومن دون أية نزعة ذاتية. وفي مختلف السهرات والمهرجانات التي شارك فيها تجده قريباً من الجمهور، ودائم التفاعل معه، بل إنه حريص على أن يجيب كل من يرغب في التواصل معه، متخففاً من كل الاعتبارات التي يأخذ بها معظم الفنانين، حين يتعلق الأمر بلقائهم المباشر مع الجمهور.
النسيان بعد الشهرة
اشتغل الفنان المغربي مع عدد من الفرق المسرحية، وتعامل مع مخرجين وممثلين من مختلف الأجيال. وحين أسس فرقة “نجوم المسرح” كان هاجسه هو الذهاب بأبي الفنون إلى المدن الصغيرة والقرى البعيدة التي لا تصل إليها معظم الفرق المسرحية، تلك التي تفضل أن تقدم أعمالها أمام جمهور المدينة. كان الداسوكين يرى أن الفن لا ينبغي أن يكون حكراً على فئة اجتماعية دون أخرى، لذلك كان يتجه بفرقته إلى قرى الجنوب ليدخل الفرح إلى مناطق نائية لم يكن التلفزيون آنذاك متاحاً فيها.
ظل الداسوكين على مدى ستة عقود نشطاً وحاضراً في كثير من الأعمال الفنية والتظاهرات الثقافية، ومع ذلك لم يسقط في فخ النمطية. غير أنه في السنوات الأخيرة اختفى عن الأنظار، لم يعد له من حضور في التلفزيون أو المسرح أو المهرجانات، ولم يكن هذا الاختفاء اختيارياً. فقد عانى الفنان المغربي الإقصاء والتهميش، بل طاله النسيان، مع بروز وجوه جديدة في عالم الكوميديا احتكرت المجال، وصار حضورها طاغياً في القنوات التلفزيونية المغربية. ولم يكن هذا مصير الداسوكين وحده، فقد تراجع حضور عديد من الفنانين من الأجيال الرائدة في الكوميديا على رغم أنهم ما زالوا على قيد الحياة. صرح الداسوكين في الفترة الأخيرة بأن الحياة الفنية بالمغرب صارت تخضع لمنطق الشللية، غير أنه ظل يواجه كل هذا النسيان بهدوئه المعروف وابتسامته الشاسعة.