تتصاعد وتيرة الأزمة في ليبيا منذ فشل إجراء الإنتخابات الرئاسية نهاية العام الماضي، لتدخل البلاد في دوامة صراع جديد على السلطة بطلاها رئيس الحكومة الحالية المنتهية الصلاحية عبد الحميد الدبيبة، ورئيس حكومة الإستقرار الجديدة فتحي باشاغا. في ظل دعم ومساندة من قبل تيارات سياسية ومجموعات عسكرية ودول أجنبية لكل منهما مقابل الآخر.
هذا الصراع يتطور تدريجياً، لتدخل ورقة النفط الليبية من جديد في هذه الدوامة، حيث يتم التأثير المباشر وغير المباشر على مجرى الأحداث في البلاد عبرها بشكل كبير. فقد تم إغلاق بعض الأبار والموانئ النفطية منذ أسابيع من قبل بعض المجموعات القبلية المسلحة التي طالبت بتحقيق العدالة في توزيع عائدات النفط وتسليم الدبيبة السلطة لباشاغا.
وفي آخر التطورات على هذا الصعيد أصدر رئيس مجلس النواب المستشار عقيلة صالح بيانًا تطرق فيه على أهمية الحفاظ على مصلحة الليبيين وفقًا لما يراه المواطن الليبي، متحدثًا في ذات الوقت عن ضمان الاستفادة من ارتفاع سعر النفط في الوقت الحالي، وهو ما يتطلب الاستمرار في الضخ.
وشدد البيان على وجوب ضمان انتظام عمل المنشآت الحيوية وحمايتها من العبث والفساد وإهدار المال العالم، مبينًا ان كل ما تقدم يتم من خلال التأكيد على وجوب تجميد إيرادات النفط في المصرف الخارجي إلى حين وضع ضمانات وآلية لاستفادة كل الليبيين من هذا الدخل وبما يحقق العدالة والمساواة للجميع.
وفي هذا الصدد قال المحلل السياسي، علي كمال، المتخصص في الشأن البيبي، إن هذه التصريحات جيدة لكنها تفتقر الى عوامل التنفيذ. فهناك الكثير من القرارات التي أقرها مجلس النواب لم تُلزم الأطراف السياسية، كما حدث مع الدبيبة الذي مازال متمسكاً بفكرة عدم تسليم السلطة إلا لجهة منتخبة، وبالتالي بقي على رأس عمله ومازال مُسيطراً على المشهد في الغرب الليبي.
واضاف أنه منذ إسقاط نظام القذافي في عام 2011، وقيام ثورة فبراير بدعم طائرات حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية الذي دمر البلاد وساهم في نشر الفتنة والإرهاب الذي يسميه الغرب الى الآن “ديموقراطية” وليبيا في حالة فوضى وإقتتال داخلي، من خلال حروب ونزاعات وحكومات مؤقتة واحدة تلو الأخرى.
وتابع أن الثابت الوحيد في معادلة الصراع المتغيرة في ليبيا والغائب عن عقول البعض شخصان أحدهما رئيس مؤسسة النفط الليبية مصطفى صنع الله والآخر محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير، اللذان وبحسب المراقبين يحققون مصالح شريحة واسعة من السياسيين في طرابلس ويتصرفون بعائدات النفط بحسب خطط فساد كبيرة يشرفون عليها شخصياً، رغم حرب التصريحات الدائرة بينهما بين الفينة والأخرى.
وقال إن صنع الله رئيس مجلس ادارة مؤسسة النفط الليبية، والقائم بأعمال وزير النفط الليبي منذ 20 أغسطس 2014، ويُعتبر من أبرز وجوه الفساد في ليبيا منذ إنطلاق ثورة فبراير على نظام القذافي، لا بل منذ أيام توليه مصنع الإيثيلين ما قبل 2011. فقد إشتهر حينها بالنرجسية واستعداده لفعل أي شيء من أجل المنصب وبناء ثروة طائلة.
وتابع أن الصديق الكبير، محافظ مصرف ليبيا المركزي منذ 12 أكتوبر 2011، وجه كبير آخر للفساد في ليبيا. فقد عُين رئيساً لمجلس إدارة مصرف الأمة 1990 – 2000، قام فيها حرفياً بإفلاس المصرف عبر شبكة فساد يسّرت منح التسهيلات إلى من يكافئهم نظام القذافي حينها. وعندما اندلعت ثورة فبراير وجد المجلس الوطني الانتقالي فيه ضالته، فعينه محافظاً لمصرف ليبيا المركزي بدعم من عدد من أعضائه والقوى السياسية المؤثرة.
وبعد اللمحة التاريخية المختصرة عن هذين الخبيرين المخضرمين في إدارة الفساد المالي، وغسيل الأموال، وبرجوع الى حقيقة المصلحة الغربية الأمريكية الدائمة في نهب ثروات الشعوب عبر إشعال الثورات والحروب، نجد أن وجودهما أساسي في اللعبة الليبية التي تُديرها واشنطن عن بعد، وبقاؤهما يوفر خدمة لها ولحلفائها من الليبيين الذين يتاجرون بالحرب أي بدماء أبناء جلدتهم.
ويُشير تقرير صادر في عام 2021 على موقع غلوبال ويتنس، كيف أن ليبيا تخسر ملايين الدولارات سنوياً بالإحتيال في استعمال منظومة الاعتمادات المستندية المسيرة من طرف مصرف ليبيا المركزي بناءً على المعلومات المالية التي نشرها المصرف على الفيسبوك وإنشاء قاعدة بيانات، تم إستخلاص هذه النتائج منها:
يُشير العدد الضخم في إصدار الإعتمادات المستندية إلى جريمة مالية سارية في منظومة الإعتمادات المستندية والتي تكلف الكثير للخزينة العامة الليبية، فوتيرة إصدار الإعتمادات المستندية بين شهري أبريل ويونيو 2020 فاقت بشكل غير مسبوق الطلب على بعض السلع. كما أنه يتولى مسؤولون كبار في مصرف ليبيا المركزي مناصب إدارية في مصارف تجارية مملوكة من طرف ليبيا في الخارج، ما يعد تضارب صريح في المصالح. لتمتد التساؤلات حول تسيير الإعتمادات المستندية إلى المشتريات الحكومية فقد حول إعتماد مستندي لمولدات طاقة بقيمة 110 مليون دولار إلى شركة إماراتية لا صلة لها بالمشروع عن طريق تغيير طفيف في اسم الشركة المتعاقدة، حيث شرع في تسديد المبلغ عبر مصرف مملوك لليبيا في لندن قبل أن يوقف الإعتماد المستندي “للإشتباه في وجود فساد”. كما تم الكشف عن ثغرات خطيرة في القوانين البريطانية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب بخصوص “المصارف المراسلة” مما تجعلها غير فعالة في تحديد الإحتيال في مجال تمويل التجارة، وتمويل النزاعات وغيرها من أنواع الجرائم المالية.
وفي سياق العمل المشترك ما بين مصرف ليبيا المركزي ومؤسسة النفط الليبية كشفت مصادر إعلامية أوائل العام الجاري عن أن المستحقات والضرائب على الشركات الأجنبية النفطية العاملة في ليبيا بلغت 2.34 مليار دولار، وفقاً لرسائل وتقارير مؤسسة النفط الحكومية، فيما أكد مصرف ليبيا المركزي، عبر آخر بياناته، أن هناك إيرادات نفطية ومستحقات على الشركات النفطية لم تورد إلى حساب وزارة المالية لدى المصرف، أما ديوان المحاسبة، فوصف تصرّف مؤسسة النفط بمستحقات شركات النفط بـ”غير القانونية”، معتبراً أنها تفرّط بأموال الدولة.
حيث أنه وبموجب القانون الليبي، تسلم المؤسسة الوطنية إيرادات وضرائب النفط إلى مصرف ليبيا المركزي، وتحصل بعد ذلك على مخصصات ميزانيتها من الحكومة الليبية. إلا أن حسابات مؤسسة النفط الليبية توازي صفراً في ما يخص المستحقات (الإتاوات) والضرائب المستحقة على شركات النفط الأجنبية.
وبحسب بيانات موقع غلوبال ويتنس الآنف ذكره، فإنه وبخطط الفساد هذه وغيرها يتم نهب الشعب الليبي من قبل المؤسسة والمصرف، الذين يخصصون جزءاً كبيراً من العائدات لشركات النفط الأجنبية والمملوكة مباشرة لرجال أعمال أمريكيين أو تابعين للولايات المتحدة وبريطانيا ولجيوب مسؤولي الحكومة والجماعات المسلحة في طرابلس. وقد تم إنشاء الصور التالية لتوضح نسب توزيع العائدات منذ نهاية حقبة القذافي في 2010 الى نهاية العام الماضي.
يُشار الى أن واشنطن عبر مبعوثها وسفيرها لدى ليبيا ريتشارد نورلاند إقترحت سُبلاً لإدارة إيرادات النفط، بهدف مساعدة البلاد خلال الأزمة الحالية كما تم الزعم. إلا أن المراقبون حذروا من إنسياق الدولة الليبية وراء هذه الإقتراحات، فمضمونها يبقى بعيداً عن مصالح الشعب الليبي، وما هي إلا مناورة أخرى من الغرب من أجل تعويض ما خسره جراء أزمة الطاقة التي يشهدها العالم اليوم جراء المواجهة بين روسيا والغرب في أوكرانيا.